ــ تاريخها : هي ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية، مع بعض الكتب الأخرى التي نقل البعض منها عن العبرية كسائر أسفار العهد القديم، والبعض الآخر كتب أصلا في اليونانية. وسميت هذه الترجمة بالسبعينية بناء على التقليد المتواتر بأنه قد قام بها سبعون ( أو بالحري اثنان وسبعون ) شيخا يهوديا في مدينة الإسكندرية في أيام الملك بطليموس الثاني فيلادلفوس ( 285 ــ 247 ق. م ).
كانت الإسكندرية مقرا لعدد ضخم من يهود الشتات حيث استقر عدد كبير منهم في مصر منذ أيام ارميا النبي، بل ربما من أيام غزو " شيشق " لفلسطين في القرن العاشر قبل الميلاد. وعندما أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية التي سميت باسمه، في 331 ق. م. تجمعت غالبية هذا الشتات في المدينة الجديدة واحتلوا كل الجزء الشرقي من الميناء الكبير، ونمت قوتهم بنمو المدينة التي أصبحت من أعظم المراكز الحضارية والمواني البحرية في حوض البحر المتوسط. أصبحت عاصمة عالمية غنية، ومراكز للآداب اليونانية والمعارف والعلوم، حيث وجد كبار العلماء غايتهم في " المتحف " الشهير. وبالإيجاز أصبحت الإسكندرية مركزا خصبا لامتزاج الثقافات التي مهدت الطريق لعالم العهد الجديد، ففي ذلك العالم امتزج الشرق بالغرب ووضعت أسس الحضارة الحديثة.
في هذا الجو الذي امتزجت فيه الثقافات الدينية والفكرية، أصبح اليهود الهيليبيون ظاهرة حضارية، ففي الإسكندرية وجد يهود الشتات مع زهوهم بميراثهم العبري، وإحساسهم بدورهم في الحضارة، وقد تجردوا من قيود القومية الضيقة والانعزالية، وجدوا أنفسهم أمام تحد كبير من آداب اليونان وفلسفتها. وكان يهود الإسكندرية يتحدثون باليونانية فقد كان هذا شرطا للمواطنة، وكانت معرفة اليونانية مطلبا أساسيا للتجارة والأعمال والحياة الاجتماعية. كان يهود الإسكندرية، كما كان يهود طر سوس، بتنازعهم عالمان مختلفان من الثقافة، ومن هنا نبتت الحاجة الماسة إلى ترجمة الأسفار العبرية إلى لغتهم الثانية.
كانت اللغة العبرية قد أصبحت وسيلة ضعيفة للاتصال عند يهود الإسكندرية، تكاد تقتصر على بعض المجامع، بالإضافة إلى رغبتهم في الإشادة بحكمتهم وتاريخهم. وكان لابد أن تحاك الأساطير حول نشأة عمل له مثل هذه الأهمية، فثمة خطاب يسمى خطاب " اريستياس إلى ميلوكراتس " دارت حوله كتابات كثيرة. وقد نشر هذا الخطاب لأول مرة باللاتينية في 1471م، ثم باليونانية بعد ذلك بتسع سنوات. وليس هنا مجال نقد هذه الوثيقة. يقول الكاتب انه أحد كبار رجال بلاط بطليموس فيلادلفوس وانه رجل يوناني مولع بتاريخ اليهود، وقد كتب عن رحلة قام بها مؤخرا إلى أورشليم لمقصد معين.
ويقول ديمتريوس فاليريوس أمين مكتبة الإسكندرية الشهيرة، أن اريستياس اقترح على الملك أن يضيف إلى المكتبة ترجمة " القوانين اليهودية ". ولما كان بطليموس رجلاً مثقفاً، فقد وافق على الاقتراح وأرسل سفارة إلى أورشليم برسالة إلى اليعازر رئيس الكهنة طالبا منه إرسال ستة شيوخ من كل سبط من الأسباط ألاثني عشر إلى الإسكندرية للقيام بالترجمة التي اقترحها اريستياس. وقد وصل الاثنان والسبعون شيخا ( ويذكر الخطاب أسماءهم ) في الوقت المعين ومعهم نسخة من الناموس مكتوبة بحروف من ذهب على رقوق من الجلد. وأقام لهم الملك مأدبة امتحن فيها هؤلاء الزائرين اليهود بمسائل صعبة، ولما اطمأن إلى علمهم، رتب لهم خلوة رائعة في جزيرة فاروس، وكان ديمتريوس أمين المكتبة ــ كما جاء في خطاب اريستياس ــ " يحفزهم على إتمام الترجمة حيث أن الملك قد زودهم بكل ما يلزمهم. فعكفوا على العمل، وقارنوا النتائج لكي تتفق فيما بينها، وكل ما اتفقوا عليه، كانوا ينسخونة تحت إشراف ديمتريوس.. وبهذه الطريقة تمت الترجمة في اثنين وسبعين يوما، وكانت هي المدة المعينة لهم من قبل ".
وقد فرح الفريق اليهودي بهذا العمل وطلبوا أن يعطوا نسخة منه، ونطقوا باللعنة على كل من يجرؤ على الحذف منها أو الإضافة إليها. كما فرح بها الملك أيضاً. وإذ حظيت بهذه البركة المزدوجة وضعت في المكتبة. وقد أورد فيلو الفيلسوف الإسكندري اليهودي هذه الرواية ، كما ذكرها بعده يوسيفوس المؤرخ اليهودي. وتؤكد شهادة يوسيفوس أن خطاب اريستياس كان متداولا في فلسطين في أواخر القرن الأول. أما رواية فيلو فيبدو انه بناها على تقليد أسكندري مستقل عن وثيقة اريستياس، وهو يذكر أيضاً احتفالا سنويا كان يقام لهذه المناسبة على جزيرة فاروس، مما يدل على انه كان يتم بناء على تقليد معروف وليس بناء على خطاب اريستياس. ولعل ما سجله يهودي أسكندري آخر هو ارستوبولس، يرجع بهذا التقليد إلى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، أي قبل مرور قرن على الزمن الذي تنسب إليه الرواية.
وهذه الرواية عن اصل الترجمة السبعينية في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، مع خلوها من التفاصيل المعجزية الزائفة، وكنتيجة مباشرة لسياسة ملكية، ليست مما لا يصدق، فقد كان المجتمع الإسكندري مجتمعا مولعا بالآداب والفلسفة، وقد نبتت فيه فكرة إنشاء المكتبات، ولذلك فان خطاب اريستياس ليس فيه ما يجافي الحقيقة. وكما يقول " هـ. ب. سويت " Swete)) في كتابه : " العهد القديم في اليونانية )، كان الملك شغوفا بالكتب، وله ذهن مسكوني ( فقد رحب ببعثة بوذية ) ـ كما كان مولعا بالتاريخ ( وقد كتب مانيتون الكاهن المصري تاريخ مصر الفرعوني في عهده )، كما كان سياسيا محنكا أراد أن يرضي جزءا كبيرا له نشاطه بين شعبه المتحضر. فلب الرواية هو أن الملك ــ مع رغبته في الثقافة ــ أراد استرضاء اليهود الذين قابلوا هذا العمل بابتهاج عظيم، كما أن اللغة اليونانية كانت القوة الموحدة في تلك البيئة المختلطة. وقد ورث البطالمة عن الإسكندر نفسه نزعته العالمية التي ساعدت على تحطيم الحواجز بين الشعوب. ومن الجانب الآخر فان يونانية الترجمة السبعينية تبدو مصبوغة بالصبغة المصرية أكثر منها بالفلسطينية، وان كان هذا آمرا يحوطه الشك، إلا انه يقلل من مصداقية ما جاء بالرواية عن مجيء الشيوخ من أورشليم، وهكذا يهز الثقة في الرواية ككل.
وان كان خطاب اريستياس يشير بشكل خاص إلى الأسفار الخمسة ــ وهو ما يتمسك به أصحاب الرأي ( الذي لم يعد مقبولا اليوم ) من أن بعض أسفار العهد القديم قد كتبت بعد ذلك العصر ــ ولكن لا يوجد اليوم ناقد معقول يعتقد أن أسفار العهد القديم كلها لم تكن متاحة لأولئك المترجمين في عصر بطليموس فيلادلفوس. ومن الطبيعي إلا نتوقع وجود الدليل القاطع على وجود كل أسفار العهد القديم في الترجمة اليونانية، لأننا نعلم أن السبعينية لم يكن لها تأثير كبير على الآداب اليونانية، ولكن ثمة بعض الدلائل المذهلة على أن " الناموس والأنبياء وسائر الأسفار " في العهد القديم، كانت متداولة في 132 ق.م. عندما نشر سفر يشوع بن سيراح.
أما منذ القرن الأول الميلادي، فالأدلة كثيرة، ففيلو ( من 30 ق.م. ــ 45 م ) يقتبس من معظم أسفار العهد القديم من السبعينية، كما أن بالعهد الجديد اقتباسات من كل أسفار العهد القديم تقريبا. ويقول فيلو أن يهود مصر استقبلوا الترجمة بنفس الاحترام الذي يولونه للأصل العبري، والأرجح أن هذا ينطبق على كل العالم الهيليني، مع احتمال استثناء فلسطين حيث كان يقيم اليهود المحافظون المتزمتون.
صدرت أول طبعة من الترجمة السبعينية في بداية القرن السادس عشر ــ بعد اختراع الطباعة ــ وانه لم يبعث على الارتياح أن يصل إلينا بعد كل هذا الزمن الطويل، نص يوناني موثوق بصحته، حيث أن الفولجاتا اللاتينية التي قام بها جيروم سرعان ما أصبحت هي نسخة الكتاب المقدس المقبولة في الكنيسة الرومانية، فكان ذلك ضربة شديدة للترجمات اليونانية، ففي العالم المسيحي الغربي أصبحت السيادة للغة اللاتينية، وانزوت اليونانية، حتى أصبحت معرفة اللغتين اليونانية والعبرية شيئا نادرا في العصور الوسطى. ولكن عندما بزغت أنوار النهضة وظهرت مخطوطات عديدة ثمينة كانت مكنوزة في مكتبات الأديرة، بدأت أنظار العلماء تتجه إلى الكتاب المقدس في كتابات باء الكنيسة الأوائل.
ــ تقييم السبعينية : ليست الترجمة السبعينية على مستوى واحد في كل الأسفار، ومن السهل أدراك أنها من عمل مترجمين عديدين. فترجمة الأسفار الخمسة الأولى ترجمة جيدة بوجه عام. أما الأسفار التاريخية ففيها الكثير من عدم الدقة والالتزام بالنصوص وبخاصة في الملوك الثاني. كما لا تظهر روعة الشعر العبري في الترجمة السبعينية، لا لنقص في الدقة فحسب، بل وأيضاً لمحاولة الترجمة الحرفية. كل ذلك يدل على أن من قاموا بالترجمة لم يكونوا متمكنين من ناصية العبرية، أو إنهم لم يراعوا الدقة، أو لم يبذلوا الجهد الكافي في تحري المعاني. وهكذا لا تسير الترجمة في سائر الأسفار على وتيرة واحدة، ففيها الكثير من الأخطاء الناتجة عن التهاون أو الملل أو الجهل. ولكنها مع ذلك تعتبر أثرا رائعا من النواحي التاريخية والاجتماعية والدينية، كما أنها تحتفظ لنا بمعاني كلمات عبرية لم تعد تستخدم الآن.
[center]