+ "فإن الذين هم حسب الجسد فيما للجسد يهتمون،ولكن الذين حسب الروح فيما للروح، لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام، لأن اهتمام الجسد هو عداوة الله، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع، فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله، وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح،أن كان روح الله ساكنًا فيكم..." (رو 5:8-9 )
التفسير :
يلاحظ في حديث الرسول بولس عن اهتمام الروح واهتمام الجسد الآتي:
لا يقارن الرسول هنا بين جوهر الجسد أي الجسم بأعضائه وبين
الروح، وإنما بين اهتمام الجسد واهتمام الروح، فيقصد باهتمام
الجسد شهوات الجسد واهتماماته واشتياقاته الجسدانيّة، ويقصد
باهتمام الروح اشتياقات الروح واهتماماتها الروحيّة.
مرة أخرى نؤكد أن الإنسان بجسده وروحه يمثل وحدة واحدة،
إن ترك لجسده العنان يتلذّذ بشهوات جسدانية، يتعدّى الجسد
حدوده فيُحسب جسدانيًا، إذ يسلك الإنسان ككل بفكره ونفسه
وجسده، بطريقة جسدانيّة، وكأنه قد صار جسدًا بلا روح.
وعلي العكس إن سلّم حياته كلها تحت قيادة الروح القدس
تتقدّس روحه الإنسانيّة، ويتقدّس جسده بكل أحاسيسه
وعواطفه، فيسلك الإنسان ككل، كما لو كان روحًا بلا جسد، إذ
يتصرف حتى الجسد بطريقة روحية.
خلال هذه النظرة يمكننا أن نعرف اهتمام الجسد، بمعنى ترك الإنسان الجسد
على هواه ليتعدّى حدوده، فتخضع حتى النفس لتحقيق هوى الجسد، أمّا
اهتمام الروح فيعني خضوع الإنسان لروح الله، فيسلك كإنسان روحي، يحقّق
هوى الروح. الأول يثمر موتًا للنفس والجسد على مستوى أبدي، والثاني يهب
حياة وسلاما أبديًا [6]. الأول يخلق عداوة لله [7] إذ يطلب الإنسان ملذاته
على حساب صداقته مع الله، أمّا الثاني فيجد رضّا في عيني الله.
بهذا الفهم يفسّر القدّيس يوحنا ذهبي الفم العبارة: "فالذين هم في الجسد لا
يستطيعون أن يرضوا الله" [8]، قائلاً: هل نقطع جسدنا إربًا حتى نرضي الله،
هاربين من طبيعتنا البشريّة؟ هذا التفسير الحرفي غير لائق، فهو لا يقصد
الجسم الإنساني ولا جوهره، إنما يعني الحياة الحيوانيّة العالميّة المستهترة التي
تجعل الإنسان جسدانيًا، حتى النفس تصير جسدانية، فتتغيّر طبيعتها ويتشوّه نبلها.
وأيضًا حين نسمع: "أمّا أنتم فلستم في الجسد بل في
الروح"، لا نفهم بهذا أننا خلعنا الجسم الإنساني، لكنّنا ونحن
في هذا الجسم قد تركنا تيّار الشهوات الجسدانيّة، فصرنا كمن
هم بلا جسد من جهة الشهوات. استخدم السيد المسيح نفسه
هذا التعبير حين قال لتلاميذه: "أنتم لستم من هذا العالم"،
بمعنى أنهم لا يحملون فكر العالم الأرضي وشهواته الزمنيّة
بالرغم من وجودهم في العالم.